The Impact of the Mona Lisa

أثر الموناليزا ... ماهو السر ؟

 

الكاتب: محمد إسماعيل عبدالله - فنان تشكيلي
الإسكندرية – مصر - يوليو ٢٠٢٢
حساب الانستجرام للكاتب:  ا
@m_ismail_Abdalla

 

إن الوقوف مطولاً أمام عمل فني بعينه، يمنح المتلقي فرصة بناء علاقة وطيدة مع اللوحة أو المنحوتة الفنية. تتشكل هذه العلاقة تدريجياً على المستوى الفكري والوجداني على حد سواء؛ حيث أن التأمل الصادق يفتح مجالاً للتوارد العاطفي، والبحث والاكتشاف والمعرفة والاستنارة. وقد يجد المتلقي نفسه مفتوناً بعمل فني لم يكن يستسغه من قبل. وقد تدفعه عملية التأمل إلى السعي نحو أفاق رحيبة من التأويل والتنقيب في أعماق العمل الفني ومحتواه الظاهر و الكامن.   ا

وعلى هذا الدرب ينحى بعض من الفنانين وطلبة الفنون الجميلة نحو إعادة إنتاج الأعمال الكلاسيكية بغرض اكتساب المعرفة وتطوير المهارات واكتشاف أسرار الضوء والظلال المتمثلة في التدرجات اللونية المنسابة على الوجوه، والمنبعثة من فضاءات المناظر في لوحات الفنانين الكلاسيكيين الأفذاذ.   ا

وفي بعض الأحيان تأتي عملية إعادة رسم لوحة كلاسيكية من دوافع شخصية لدى الفنان، يقصد بها المغامرة الفنية، أو التحليل والدراسة، أو إشباع متعة شخصية. وربما كانت هذه الفكرة أو تلك تطفو على سطح أفكار الفنان (لويي بيرود) عندما شق طريقه في ٢٢ أغسطس من عام ١٩١١ إلى متحف (اللوفر) عازماً على التقاط رسم تحضيري (للموناليزا). ولعلّه شعر بخيبة أمل كبيرة عندما وجد الجدار الذي عُلّقت عليه (الموناليزا) فارغاً. مما جعله يسأل مُلحاً عن مصير اللوحة. وكان إصراره على معرفة سر إختفائها، سبباً في الكشف عن السرقة الكبرى للوحة الموناليزا.   ا

جاءت إستجابة السلطات الفرنسية سريعة وقاطعة. فأغلقت المتحف وقامت باستجواب العاملين به فرداً فرداً. كما أغلقت الحدود خوفاً من خروج اللوحة خارج البلاد. واتسعت دائرة الشبهات حتى طالت (بابلو بيكاسو) نفسه وصديقه الشاعر (جيوم أبوللونير) بُناءاً على وشاية من سكرتير (أبوللونير) السابق.   ا

كان (بيكاسو) وقتها فناناً واعداً يبلغ من العمر ٣٠ عاماً  وكان قد أنجز – بالفعل – لوحته الثورية (آنسات أفينيون) التي مهدت لظهور المدرسة التكعيبية. لكن مكانته في الأوساط الفنية آنذاك لم تمنعه من الخضوع للاستجواب والمثول أمام القاضي مع صديقه (أبوللونير) حيث تمت تبرئتهما – بالطبع – من تهمة السرقة.   ا

         آنسات أفينيون، ١٩٠٧                 
                                 
                                                                             بابلو بيكاسو                                                           
لا شك في أن (الموناليزا) كانت قد حظت – بذلك الوقت – على قدر كبير من التقدير والشهرة في الأوساط الفنية. لكن سرقة عام ١٩١١ شكلت حدثاً فارقاً في تاريخ اللوحة، وذيوع شهرتها المدوية كما نعرفها الآن.  ا
فإن السباق المحموم بين الصحف لمعرفة هوية السارق، وتتبع مسار الحادث، وضع (الموناليزا) تحت دائرة الضوء على المستوى الجماهيري. مما جعل وفود السياح والزوار – ومن بينهم (فرانز كافكا) – تزحف نحو (اللوفر) بعد إعادة افتتاحه، لمشاهدة غياب (الموناليزا) ووضع باقات الزهور تحت الجدار المهجور.   ا 
استمر البحث عن (الموناليزا) لمدة عامين بلا طائل. حتى تم اعتقال (فينتشنزو بيروجيا) بعد محاولته بيع اللوحة في فلورنسا – إيطاليا. وأثناء محاكمته تذرع بأن السرقة جاءت بدوافع وطنية، وأنه أراد بفعلته أن يعيد الأعمال الفنية الإيطالية المنهوبة بأيدي الفرنسيين أثناء الحروب النابوليونية ١٨٠٣ – ١٨١٥ إلى موطنها الأصلي. لكن (فينتشنزو) لم يدرك حقيقة أن (الموناليزا) لم تكن واحدة من تلك الأعمال، وأنها دخلت إلى فرنسا بصورة مشروعة على يد (ليوناردو دافنشي) نفسه.   ا
لقد ساهم (فينتشنزو بيروجيا) – عن غير قصد – في تحويل (الموناليزا) إلى اللوحة الأكثر شهرة على الإطلاق. لكن من الواضح أنه لم يكن على دراية كافية بتاريخ اللوحة وقيمتها الفنية. ويبدو من اعترافاته أن وقوع اختياره على (الموناليزا) جاء إعتباطياً، بحكم أنها اللوحة الأصغر حجماً بين المعروضات الإيطالية، مما ساعده على وضعها تحت معطفه والخروج بها من المتحف دون أن يلحظه أحد.   ا
  فينتشنزو بيروجيا

 

لكنه ليس من الإنصاف بمكان أن تنحصر شهرة (الموناليزا) ومكانتها المرموقة في الفعل الإجرامي الذي قام به (فينتشنزو بيروجيا). ولا يمكن أن تُبنى قيمتها الفنية في تاريخ الفن على حادثة سرقة.   ا
قد تبدو (الموناليزا) للمشاهد العصري عملاً فنياً عادياً، خالٍ من عناصر الدهشة والإبهار، ولا يختلف كثيراً عن الأعمال الفنية الأخرى التي تحظى بتقدير جمهور الفن. لكنها بمعايير عصر النهضة تُعد عملاً فنياً آسراً يزخر بالبراعة والعبقرية. فإنها أكثر أعمال (ليوناردو دافنشي) تأثيراً على معاصريه من الرسامين. حيث أصبحت مثالاً يحتذى به في فن (البورتريه).   ا
كما أنها اتصفت – في عصور لاحقة – بالسحر والغموض. وأثارت عدداً لا يُحصى من التساؤلات التي لا تجد جواباً قاطعاً ونهائياً. فهذا الوجه الهادئ، الغارق في الضوء والظلال، ويرنو نحونا بنظرة مُحيرة، حيكت حوله الكثير من النظريات والخيالات والأساطير. وبالرغم من كل ما أثير حول هوية المرأة صاحبة الإبتسامة الملغزة، إلّا أن الطرق تؤدي دوماً إلى أعتاب (ليزا غيرارديني).  
شرع (ليوناردو دافنشي) في رسم (ليزا غيرارديني) عام ١٥٠٣، بتكليف من زوجها (فرانشيسكو ديل جيوكوندو). وهو تاجر حرير ثري من فلورنسا. وبدءاً من هذه الحقيقة ينبثق اللغز الأول حول (الموناليزا). فليوناردو دافنشي البالغ من العمر في ذلك الوقت ٥١ عاماً، كان في أوج شهرته ويحظى بمنزلة إجتماعية مرموقة. فما الذي يدفع فناناً بمكانته إلى قبول هذا التكليف المتواضع بعدما قام برسم لوحات مثل (عذراء الصخور) و(العشاء الأخير). وكانت تأتيه التكليفات من النبلاء ونخبة المجتمع.   ا
إن الإجابة الأكثر منطقية التي توصل إليها الباحثون هي أن شبكة علاقات (فرانشيسكو ديل جيوكوندو) الإجتماعية اتسعت حتى شملت (بييرو دافنشي) والد (ليوناردو دافنشي)، الذي قام بدور الوساطة بين (فرانشيسكو) و(ليوناردو). كما أن التكليف جاء بعد انتقال (ليوناردو) من ميلانو إلى فلورنسا بوقت قصير. مما يوحي بحاجة (دافنشي) إلى عمل يدر عليه المال.   ا
وبالرغم من مصداقية هذه المعلومة إلّا أنها لا تُقدم إجابة مُرضية بالضرورة؛ حيث يمكننا إستشعار أن هناك سبباً خفياً اختلج في صدر (ليوناردو) كان وراء قبوله بهذا التكليف. وهو سبب – على الأرجح – لن نعرف كنهه أبداً.   ا

وهكذا وضع (دافنشي) لمساته الماهرة – بصبر لا ينضب – على السطح الخشبي، مستخدماً تقنيته الفنية (سفوماتو) التي كان رائداً فيها. وهي تقنية تعمد إلى مزج طبقات لونية شفافة تخلق تناغماً بين منطقتيّ الضوء والظل في تدرجات لونية دقيقة تذوب في نمط ضبابي، مما يجعل ضربات الفرشاة غير مرئية. لتتشكل ملامح (الموناليزا) بصورة شديدة الواقعية. ا

لقد أدخل (دافنشي) عنصراً هاماً على لوحة (الموناليزا)، وهو عنصر إدراك وجود أعين تنظر إليها. حيث كانت الشخوص النسائية – في اللوحات السابقة على (الموناليزا) – تبدو على غير دراية بوجود من يشاهدها. ولم يكن من دأب الأعمال الفنية أن تصور النساء في وضعيات تشي بالثقة والثبات. لكن (الموناليزا) على عكس ذلك، فهي على دراية تامة بأننا ننظر إليها، وتبادلنا النظر أيضاً. مما يسبغ عليها وعياً واثقاً بالذات، كان حكراً على رجال عصر النهضة.   ا
\
موناليزا

 

اتسمت بورتريهات عصر النهضة بتصوير شخوصٍ تحمل نزعة من الكبرياء، وترتسم عليها ملامح الجدّ والصرامة. وتقف في استقامة، مسربلة بأفخر الأزياء والحُليّ الثمينة، لتعكس الثراء والمكانة الإجتماعية لصاحب البورتريه. وهي سمات غائبة كلية عن (الموناليزا) التي ترتدي ثياباً داكنة، ومتجردة تماماً من الحُليّ؛ مع أنها – كما هو معلوم لنا – زوجة تاجر (حرير) ثري. فإن لم تُجبرنا هذه الملاحظة على التساؤل، ستحملنا على ملاحظة ما تتزين به (الموناليزا) وتفتقر إليه الشخوص الأخرى.. ألا وهو إبتسامتها الأخاذة. 

ليس بوسع المرء أن يفترض أن (ليزا غيرارديني) لم تمتلك – في واقع الأمر – إبتسامة آسرة فتنت (ليوناردو دافنشي) وطاردته في أحلامه، حتى انطبعت على كل الوجوه التي رسمها بعدها. ولابد أن الانفعالات العاطفية التي تولدت في نفسه دفعته إلى إعادة إنتاج ابتسامتها في أعماله اللاحقة حتى أُطلق عليها الإبتسامة (الليوناردية). وهي ابتسامة رائدة في تاريخ الفن، لم يسبقه إليها أحد. استدعى من أجلها معرفته الواسعة بعلم التشريح، واستعان بدراساته البصرية، ومهاراته الفنية. جامعاً بذلك جُلّ شغفه، لتتجسد أمامنا بكل سحرها وفتنتها وعذوبتها. تاركة في نفس كل من يشاهدها مشاعر ملتبسة، وعاطفة متدفقة.   ا

عندما يؤخذ في الاعتبار فرادة لوحة (الموناليزا)، وأثرها الممتد عبر خمسة قرون. تتبدى لنا حقيقة هامة، وهي أن (ليوناردو دافنشي) إستطاع أن يصنع عملاً طليعياً وثورياً بمقاييس عصره. وأن يضع معاييراً لفن (البورتريه) احتذى بها معاصروه، وأجيال لاحقة من الرسامين. وهذه حقيقة – في نظري – تكفل (للموناليزا) مكانتها في عالم الفن، بمعزل عن المرويات والمجادلات التي أُثيرت من حولها.   ا

ليس ثمة معلومات موثقة تتعلق بالمدة التي قضاها (دافنشي) في رسم (الموناليزا). فهناك أراء أجمعت على أنه استغرق أربع سنوات كي يرسمها. وهناك أراء تدحض ذلك. لكن ما نعرفه – حق المعرفة – هو أن (دافنشي) لم يسلمها قط إلى (فرانشيسكو ديل جيوكوندو) وزوجته.. بل احتفظ بها وحملها معه في أسفاره. ومن المعروف أنها كانت العمل الفني الوحيد الذي حمله معه عند انتقاله إلى فرنسا بدعوة من الملك (فرانسوا الأول)، الذي انتقلت إليه ملكية لوحة (الموناليزا) بعد وفاة (دافنشي) في عام ١٥١٩؛ بُناءاً على اتفاق مسبق بينهما. لتبدأ (الموناليزا) – بعد ذلك – رحلتها من قصر (فونتينبلو) إلى قصر (فرساي)، ثم بعد قيام الثورة الفرنسية ١٧٨٩ – ١٧٩٩ إلى متحف (اللوفر). ا

من طبيعة الروائع الفنية أن تتشح بالسحر والغموض. وأن تحمل في دخيلتها أسراراً ومقاصد عميقة، لا تتكشف إلا بالبصيرة والعاطفة. ولا تُفصح الرائعة الفنية عن مقاصدها دفعة واحدة؛ وقد تترفع عن ذلك أيضاً. لتتيح لخيال المشاهد الفرصة كي يساهم في خلق معانٍ وأحاسيس جديدة داخل نفسه. فتتجدد بذلك حياة العمل الفني داخل كل فرد منا، منصهرة بعواطفه وهواجسه ورؤاه الخاصة. وكم فعلت (الموناليزا) ذلك، فأثارت مشاعر متضاربة من الحب والإعجاب، والسخرية. تجسدت في شكل محاكاة من قِبل فنانين كُثر، أمثال رفاييل، ومارسيل دوشامب، وآندي وارهول، وفيرناندو بوتيرو. كما أثارت مشاعر البغض والكراهية فتعرضت لمحاولات التشويه المادي مثل القذف بالحجارة في عام ١٩٥٦، والتلطيخ بالطلاء في عام ١٩٧٤، وفي عام ٢٠٠٩ تم إلقاء فنجان من القهوة نحوها..   ا

كانت آخر هذه المحاولات في ٢٩ مايو ٢٠٢٢ عندما دخل إلى (اللوفر) رجل متنكر في زي سيدة عجوز على مقعد متحرك، وهاجم (الموناليزا) بقالب حلوى. ليتلطخ الزجاج الواقي الذي يحمي اللوحة بالكريمة البيضاء. ومن خلف الزجاج تبتسم (الموناليزا) هادئة، ترنو نحونا في أوج زينتها.   ا

 

ملاحظات الصور:   ا

١. الصورة الرئيسية: لوحة الموناليزا.   ا

٢. لوحة "آنـسات أفينيون"، لبابلو بيكاسو، 1907، زيت على قماش، 244 × 234 سم؛ وتُعد أول لوحة تكعيبية على الإطلاق.   ا

٣. بيكاسو أمام لوحته "الهاوي" (معروضة في متحف كونستميوزيم، بازل) في فيلا "لي كلوشيت"، صيف عام 1912.   ا

٤. صورة جنائية لفينتشنزو بيروجيا، الذي يُعتقد أنه سرق لوحة الموناليزا عام 1911.   ا


العودة إلى بلوق

اترك تعليقا

يرجى ملاحظة أنه يجب الموافقة على التعليقات قبل نشرها.