
أثر الموناليزا ... ماهو السر ؟
يشارك
إن الوقوف مطولاً أمام عمل فني بعينه، يمنح المتلقي فرصة بناء علاقة وطيدة مع اللوحة أو المنحوتة الفنية. تتشكل هذه العلاقة تدريجياً على المستوى الفكري والوجداني على حد سواء؛ حيث أن التأمل الصادق يفتح مجالاً للتوارد العاطفي، والبحث والاكتشاف والمعرفة والاستنارة. وقد يجد المتلقي نفسه مفتوناً بعمل فني لم يكن يستسغه من قبل. وقد تدفعه عملية التأمل إلى السعي نحو أفاق رحيبة من التأويل والتنقيب في أعماق العمل الفني ومحتواه الظاهر و الكامن. ا
وعلى هذا الدرب ينحى بعض من الفنانين وطلبة الفنون الجميلة نحو إعادة إنتاج الأعمال الكلاسيكية بغرض اكتساب المعرفة وتطوير المهارات واكتشاف أسرار الضوء والظلال المتمثلة في التدرجات اللونية المنسابة على الوجوه، والمنبعثة من فضاءات المناظر في لوحات الفنانين الكلاسيكيين الأفذاذ. ا
وفي بعض الأحيان تأتي عملية إعادة رسم لوحة كلاسيكية من دوافع شخصية لدى الفنان، يقصد بها المغامرة الفنية، أو التحليل والدراسة، أو إشباع متعة شخصية. وربما كانت هذه الفكرة أو تلك تطفو على سطح أفكار الفنان (لويي بيرود) عندما شق طريقه في ٢٢ أغسطس من عام ١٩١١ إلى متحف (اللوفر) عازماً على التقاط رسم تحضيري (للموناليزا). ولعلّه شعر بخيبة أمل كبيرة عندما وجد الجدار الذي عُلّقت عليه (الموناليزا) فارغاً. مما جعله يسأل مُلحاً عن مصير اللوحة. وكان إصراره على معرفة سر إختفائها، سبباً في الكشف عن السرقة الكبرى للوحة الموناليزا. ا
جاءت إستجابة السلطات الفرنسية سريعة وقاطعة. فأغلقت المتحف وقامت باستجواب العاملين به فرداً فرداً. كما أغلقت الحدود خوفاً من خروج اللوحة خارج البلاد. واتسعت دائرة الشبهات حتى طالت (بابلو بيكاسو) نفسه وصديقه الشاعر (جيوم أبوللونير) بُناءاً على وشاية من سكرتير (أبوللونير) السابق. ا
كان (بيكاسو) وقتها فناناً واعداً يبلغ من العمر ٣٠ عاماً وكان قد أنجز – بالفعل – لوحته الثورية (آنسات أفينيون) التي مهدت لظهور المدرسة التكعيبية. لكن مكانته في الأوساط الفنية آنذاك لم تمنعه من الخضوع للاستجواب والمثول أمام القاضي مع صديقه (أبوللونير) حيث تمت تبرئتهما – بالطبع – من تهمة السرقة. ا



وهكذا وضع (دافنشي) لمساته الماهرة – بصبر لا ينضب – على السطح الخشبي، مستخدماً تقنيته الفنية (سفوماتو) التي كان رائداً فيها. وهي تقنية تعمد إلى مزج طبقات لونية شفافة تخلق تناغماً بين منطقتيّ الضوء والظل في تدرجات لونية دقيقة تذوب في نمط ضبابي، مما يجعل ضربات الفرشاة غير مرئية. لتتشكل ملامح (الموناليزا) بصورة شديدة الواقعية. ا

اتسمت بورتريهات عصر النهضة بتصوير شخوصٍ تحمل نزعة من الكبرياء، وترتسم عليها ملامح الجدّ والصرامة. وتقف في استقامة، مسربلة بأفخر الأزياء والحُليّ الثمينة، لتعكس الثراء والمكانة الإجتماعية لصاحب البورتريه. وهي سمات غائبة كلية عن (الموناليزا) التي ترتدي ثياباً داكنة، ومتجردة تماماً من الحُليّ؛ مع أنها – كما هو معلوم لنا – زوجة تاجر (حرير) ثري. فإن لم تُجبرنا هذه الملاحظة على التساؤل، ستحملنا على ملاحظة ما تتزين به (الموناليزا) وتفتقر إليه الشخوص الأخرى.. ألا وهو إبتسامتها الأخاذة.
ليس بوسع المرء أن يفترض أن (ليزا غيرارديني) لم تمتلك – في واقع الأمر – إبتسامة آسرة فتنت (ليوناردو دافنشي) وطاردته في أحلامه، حتى انطبعت على كل الوجوه التي رسمها بعدها. ولابد أن الانفعالات العاطفية التي تولدت في نفسه دفعته إلى إعادة إنتاج ابتسامتها في أعماله اللاحقة حتى أُطلق عليها الإبتسامة (الليوناردية). وهي ابتسامة رائدة في تاريخ الفن، لم يسبقه إليها أحد. استدعى من أجلها معرفته الواسعة بعلم التشريح، واستعان بدراساته البصرية، ومهاراته الفنية. جامعاً بذلك جُلّ شغفه، لتتجسد أمامنا بكل سحرها وفتنتها وعذوبتها. تاركة في نفس كل من يشاهدها مشاعر ملتبسة، وعاطفة متدفقة. ا
عندما يؤخذ في الاعتبار فرادة لوحة (الموناليزا)، وأثرها الممتد عبر خمسة قرون. تتبدى لنا حقيقة هامة، وهي أن (ليوناردو دافنشي) إستطاع أن يصنع عملاً طليعياً وثورياً بمقاييس عصره. وأن يضع معاييراً لفن (البورتريه) احتذى بها معاصروه، وأجيال لاحقة من الرسامين. وهذه حقيقة – في نظري – تكفل (للموناليزا) مكانتها في عالم الفن، بمعزل عن المرويات والمجادلات التي أُثيرت من حولها. ا
ليس ثمة معلومات موثقة تتعلق بالمدة التي قضاها (دافنشي) في رسم (الموناليزا). فهناك أراء أجمعت على أنه استغرق أربع سنوات كي يرسمها. وهناك أراء تدحض ذلك. لكن ما نعرفه – حق المعرفة – هو أن (دافنشي) لم يسلمها قط إلى (فرانشيسكو ديل جيوكوندو) وزوجته.. بل احتفظ بها وحملها معه في أسفاره. ومن المعروف أنها كانت العمل الفني الوحيد الذي حمله معه عند انتقاله إلى فرنسا بدعوة من الملك (فرانسوا الأول)، الذي انتقلت إليه ملكية لوحة (الموناليزا) بعد وفاة (دافنشي) في عام ١٥١٩؛ بُناءاً على اتفاق مسبق بينهما. لتبدأ (الموناليزا) – بعد ذلك – رحلتها من قصر (فونتينبلو) إلى قصر (فرساي)، ثم بعد قيام الثورة الفرنسية ١٧٨٩ – ١٧٩٩ إلى متحف (اللوفر). ا
من طبيعة الروائع الفنية أن تتشح بالسحر والغموض. وأن تحمل في دخيلتها أسراراً ومقاصد عميقة، لا تتكشف إلا بالبصيرة والعاطفة. ولا تُفصح الرائعة الفنية عن مقاصدها دفعة واحدة؛ وقد تترفع عن ذلك أيضاً. لتتيح لخيال المشاهد الفرصة كي يساهم في خلق معانٍ وأحاسيس جديدة داخل نفسه. فتتجدد بذلك حياة العمل الفني داخل كل فرد منا، منصهرة بعواطفه وهواجسه ورؤاه الخاصة. وكم فعلت (الموناليزا) ذلك، فأثارت مشاعر متضاربة من الحب والإعجاب، والسخرية. تجسدت في شكل محاكاة من قِبل فنانين كُثر، أمثال رفاييل، ومارسيل دوشامب، وآندي وارهول، وفيرناندو بوتيرو. كما أثارت مشاعر البغض والكراهية فتعرضت لمحاولات التشويه المادي مثل القذف بالحجارة في عام ١٩٥٦، والتلطيخ بالطلاء في عام ١٩٧٤، وفي عام ٢٠٠٩ تم إلقاء فنجان من القهوة نحوها.. ا
ملاحظات الصور: ا
١. الصورة الرئيسية: لوحة الموناليزا. ا
٢. لوحة "آنـسات أفينيون"، لبابلو بيكاسو، 1907، زيت على قماش، 244 × 234 سم؛ وتُعد أول لوحة تكعيبية على الإطلاق. ا
٣. بيكاسو أمام لوحته "الهاوي" (معروضة في متحف كونستميوزيم، بازل) في فيلا "لي كلوشيت"، صيف عام 1912. ا
٤. صورة جنائية لفينتشنزو بيروجيا، الذي يُعتقد أنه سرق لوحة الموناليزا عام 1911. ا